تونس- انتخابات التغيير بين الأمل واليأس، نحو مستقبل أفضل؟

مع دنو الانتخابات الرئاسية المرتقبة في الربع الأخير من العام الحالي، إذا ما جرت في موعدها، تتفاقم مشاعر التردد والتذبذب لدى التونسيين بين الإحساس باليأس والرغبة في التغيير. فمنهم من لا يعوّل عليها في إحداث أي تغيير جوهري، بل يعتبرها مجرد مرحلة عابرة لتكريس حالة من الشعبوية والعجز التي تعيشها البلاد، بينما يراها آخرون منعطفًا حاسمًا سيحدّد مستقبل تونس لسنوات عديدة قادمة، وربما لعقود، وفرصة سانحة لإنقاذ البلاد من السقوط في هاوية الانهيار.
1- التغيير قادم وشروطه موجودة
يتفق الجميع على أن الوضع الحالي مُضنٍ للغاية، ولا يمكن الاستمرار فيه على ما هو عليه. فالأزمة الاقتصادية بلغت أوجها، والموارد الداخلية للدولة، التي تعتمد بشكل متزايد على الضرائب بسبب تعثر عجلة الإنتاج، لم تعد قادرة على تغطية سوى جزء يسير من الميزانية السنوية للدولة، ممّا يؤدي إلى تفاقم الديون الخارجية وتهديد السيادة الوطنية. وتفاقم الفقر وزادت حدته، ممّا ينذر باضطرابات اجتماعية خطيرة قد تندلع في أي لحظة. ولعل السبب في تأخرها حتى الآن هو المهلة الطويلة التي منحها الشعب لمنظومة انتخابات 2019، والتي تم إهدارها وتبديدها. لا شك أن التغيير قادم لا محالة، إذ لا توجد حلول تلوح في الأفق لهذه الأزمة المتفاقمة.
التغيير مُقبل، لأن النموذج التنموي للدولة وصل إلى طريق مسدود، وأصبح قاصرًا تمامًا عن إيجاد حلول للمشاكل المتراكمة والمتفاقمة.
التغيير ضروري، لأن البنية التحتية للدولة التونسية ومؤسساتها أصبحت قديمة وبالية، ولم يتم تجديدها وتطويرها، وأصبحت تعاني من البيروقراطية المفرطة والجمود وانعدام الفعالية. ولأن منظومة المؤسسات والمشاريع العمومية الواسعة أضحت جميعها تقريبًا مفلسة ومدمرة بسبب الفساد والمحسوبية وتسلط النقابات.
واستمرار هذا الوضع لسنوات أخرى يعني سقوط المشاريع العمومية الواحدة تلو الأخرى كأحجار الدومينو، نظرًا لارتباطها الوثيق عبر الديون والمستحقات غير المحصلة. ولن يكون هناك مفر من أحد الخيارين: إما عمليات خصخصة شاملة، أو مسار إصلاحات جذرية وعميقة في حوكمة وإدارة هذه المؤسسات.
التغيير آتٍ، لأن البنية الاقتصادية الوطنية الريعية التي تعتمد على عدد محدود من العائلات ورجال الأعمال المهيمنين على الثروة والمسيطرين على جميع القطاعات لم تعد قادرة على الصمود طويلًا أمام الضغط الهائل للانفتاح من قبل قوى المصالح الجديدة ورواد الأعمال الشباب وأصحاب المبادرات ذات القيمة المضافة العالية والقدرة التشغيلية المرتفعة، وأمام الدعوات المتكررة لإرساء أسس الاقتصاد الاجتماعي التضامني، وأيضًا أمام ضغوط الشركاء الأجانب والمنافسة الإقليمية والدولية الحادة.
التغيير قادم بحكم الأمر الواقع، نظرًا لوجود شرائح واسعة من المواطنين مقتنعة بضرورته وحتميته بعد أن جرّبت العديد من الخيارات، والتي باءت جميعها بفشل ذريع.
2- أسس التغيير القادم
من غير المرجح أن يتجسّد التغيير المنتظر في صورة ثورة جديدة، إذ أن الظروف الموضوعية لاندلاع ثورة جديدة غير متوفرة على الرغم من الوضع الكارثي الذي تعيشه البلاد. وتُظهرنا دروس التاريخ أنه من الصعب للغاية أن تندلع ثورتان في جيل واحد. فالثورات غالبًا ما تكون عمليات تغيير جذرية تحدث نتيجة لتراكم الظروف والمشاكل على مر السنين، وعادة ما يستغرق ذلك فترة طويلة لإحداث تغييرات جوهرية في المجتمع. وعادة ما تستمر العمليات التحولية بعد الثورة فترة طويلة لتحقيق أهدافها واستقرار الأوضاع.
في الأغلب، لن يعتمد التغيير المقبل على أساس أيديولوجي بين اليمين واليسار، أو بين الحداثيين والإسلاميين، ولا على أساس الصراع السياسي بين أنصار الثورة ومعارضيها، ولا على أساس صراع الأجيال بين القدامى والجدد. فقد جرّبت البلاد كل هذه الخيارات ولم يتم تحقيق الحسم ولم تتحقق الوعود والأهداف المنشودة.
لذلك، من واجب النخب الواعية في البلاد أن تسعى جاهدة لجعل الفرز في المعركة الانتخابية القادمة يتم بين الشرائح الواسعة من المقتنعين بضرورة التغيير الجذري الهادئ والإصلاح العميق، وبين قوى المصالح والجهات المحافظة التي تسعى للحفاظ على احتكارها لثروات البلاد وضمان بقاء نفوذها.
ينبغي أن ترتكز فلسفة التقاء الرؤى الجديد على أسس متوافقة مع الوضع الراهن للبلاد، ومع الأولويات الرئيسية للتونسيين للسنوات والعقود القادمة. ينبغي أن يكون هناك التقاء حول أولويات مثل: تحسين مستوى معيشة المواطنين، وتعزيز السيادة الوطنية، وتحقيق الاستقرار السياسي، وإجراء إصلاحات هيكلية ومؤسساتية للدولة ومؤسساتها العمومية، وتكريس آليات وثقافة الرقابة والحوكمة والشفافية والمساءلة، وإنقاذ الاقتصاد الوطني من خلال كسر طبيعته الريعية والقضاء على هيمنة القلة الاحتكارية المتنفذة، وتعزيز روح المبادرة وتطوير الإنتاج وتشجيع الابتكار والرقمنة والقيمة المضافة، وتركيز نظام ضريبي عادل وفعال، وبناء أسس اقتصاد اجتماعي تضامني لمكافحة الفقر، وغيرها من الأولويات.
تلك الأولويات هي الأهم بالنسبة للتونسيين من جميع التناقضات السياسية والأيديولوجية والمصلحية التي غرقت فيها البلاد خلال العقد الأخير، والتي أخرجت تونس من مسار الاستقرار والتنمية والنجاح، وأعادتها إلى مربع الاستقطاب الأيديولوجي وهيمنة المافيات المالية السياسية التي تتلاعب بمكونات المشهد السياسي لخدمة مصالحها ومنع أي تغيير جاد يهدد نفوذها.
3- سباق مع الزمان : إما تغييرًا حقيقيًا أو تدهورًا محققًا
التغيير قادم لا محالة. وإذا لم يتم استباقه والعمل عليه بشكل جدي من قبل جهات وطنية تؤمن بالتغيير والإصلاح من داخل أجهزة الدولة والمجتمع، فسيحدث بأيدي قوى المصالح النافذة المدعومة من قبل لوبيات داخلية وخارجية بهدف الحفاظ على منظومة المصالح، من خلال إصلاحات شكلية وحلول وهمية وخيارات لن يكون بإمكانها سوى تأجيل الانفجار الاجتماعي لبعض الوقت، وستتسبب في ضياع المزيد من الوقت الثمين على البلاد وتأخير استحقاقات التغيير الحقيقي لسنوات أخرى.
في هذا السياق، يمكن فهم المناورات الانتخابية المبكرة والخروج المتربص لبعض الشخصيات المعروفة بارتباطها بقوى المصالح في معركة الرئاسيات التي باتت على الأبواب، والمناورات الأمنية والقضائية لإقصاء مرشحين محتملين قد يكون لديهم حظوظ في المنافسة الجادة على المنصب وفي كسر جمود التوازنات الراهنة.
وعلى الرغم من أجواء الانسداد ونزعات الاستبداد والخوف من المنافسة والتمسك الشديد بالسلطة من قبل الرئيس الحالي، الذي أثبت عجزه التام عن التغيير وعدم امتلاكه رؤية إصلاحية وحلولًا عملية، إلا أن اللعبة تبدو مفتوحة نسبيًا. ويبدو المشهد الانتخابي مفتوحًا على كافة الاحتمالات، بما في ذلك احتمال نجاح مشروع تغييري على يد مجموعة من التونسيين يلتقون حول مرشح يحمل رؤية إصلاحية وبرنامج مرحلي واقعي وخطاب مسؤول، ومدعوم من عدد من القوى السياسية والاجتماعية والشبابية، ويُطمئن أجهزة الدولة الحريصة على استقرار البلاد والتي تتخبط اليوم في حالة من الفوضى والغموض بشأن كيفية الخروج من الأزمة.
هناك لحظة تاريخية إستراتيجية يمكن استغلالها، إذا ما توفر مرشح ذو مصداقية، يمتلك رؤية إستراتيجية وخطابًا عقلانيًا بعيدًا عن التشنج يوحد المجتمع، ويحيط به فريق كفء يتمتع بالخبرة والمعرفة ونظافة اليد، وتلتف حوله قوى سياسية ومجتمعية تعددية، وقادر على كسب ثقة أغلبية التونسيين وطمأنة أجهزة الدولة.
4- التغيير القادم يجب أن يكون مع الدولة لا ضدّها
كما ذكرنا سابقًا، لن يتحقق التغيير المنشود من خلال ثورة ضد النظام. ولا تتوفر اليوم شروط موضوعية لتحقيق تغيير جذري يقلب المعادلات الراهنة تمامًا، ويقضي بسرعة على منظومات المصالح التي تسعى إلى تعطيل الإصلاح. وإنما سيكون غالبًا نتيجة تفاوض وتوافق وتفاهمات مع الدولة العميقة، سواء عبر صناديق الاقتراع أو بدونها إذا اقتضت الضرورة.
يجب على الجميع أن يتقبلوا أن التغيير المنشود سيكون تدريجيًا وغير متسرع، وأن يستفيد من تجارب وأخطاء مراحل ما بعد الثورة، وأن يأخذ الإيجابيات من كل مرحلة. لأن الهدف هو تحقيق تقدم مستدام وإصلاح المنظومات وتطوير العقليات. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بقدر كبير من التوافق وتقليل الخلافات وبناء رؤية موحدة وقواسم مشتركة واسعة بين جزء كبير من الأطراف السياسية والاجتماعية المتنافسة.
توفر هذا الشرط سيمثل حافزًا للدولة العميقة والأجهزة الصلبة للتعامل بإيجابية مع هذا المشروع التغييري، خاصة وأنه يتماشى مع عقيدتها القائمة على الحفاظ على المؤسسات ورفض الهزات وتجنب النزاعات والمحافظة على التوازنات القائمة.
من مصلحة أجهزة الدولة تحقيق تغيير هادئ يحظى بشرعية شعبية، يجدد المؤسسات ويطور حوكمتها ويطهرها بشكل هادئ وتدريجي من الفساد والمحسوبية، ويقوي أسس الاقتصاد الوطني، ويعزز اندماجه في الاقتصاد الدولي من خلال الانسجام مع المعايير العالمية في الحوكمة الرشيدة والشفافية والنزاهة، ويحسن من سجل البلاد في الديمقراطية وحقوق الإنسان واستقلال القضاء، كشروط لتحقيق الاستقرار الداخلي المستدام، ولتحسين بيئة الاستثمار والقدرة التنافسية وجذب الدعم الخارجي.
إذا كانت الشعبوية مندفع وأعمى وفاقدة للعقل وسوء التقدير، فإن الدولة العميقة والأجهزة الصلبة عاقلة ولا تتهور، وإنما يفترض أنها تفكر وتستشرف عواقب الخيارات المطروحة، وتوازن بين الحفاظ على المصالح الضيقة الآنية والمصلحة العامة المستقبلية.
لا شك أن الدولة العميقة والأجهزة الصلبة قد قبلت بالانقلاب على الديمقراطية وشاركت فيه، وحاولت استخدام الشعبوية لطي صفحة ما بعد الثورة وما صاحبها مما تعتبره فوضى وفشلًا ونزاعات وتفاقمًا للأزمات والفساد. والأكيد أنها تدرك اليوم أنها ارتكبت خطأ عندما سايرت انحراف الشعبوية وجنوحها نحو الاستبداد ونزعتها التقسيمية للمجتمع وانخراطها في تدمير المؤسسات. خاصة بعد أن أدركت أن تدمير أركان الدولة الواحد تلو الآخر قد يتسبب في نهاية المطاف في سقوط البناء بأكمله على رأسها ورأس المجتمع.
ولا شك أن جزءًا من الأجهزة يتطلع إلى إنقاذ الدولة من الانهيار والمجتمع من الاقتتال، ويبحث عن بدائل عقلانية تضع حدًا للانحرافات المدمرة وتمنع استمرار حالة التدمير الحالية لخمس سنوات قادمة بشرعية متجددة. الأكيد أن تلك الأجهزة تعرف أنها غير قادرة على ذلك وحدها ولا تمتلك القدرة والمعرفة والآليات لتحقيق التغيير المنشود، من خلال تولي تسيير البلاد بنفسها. وهي تعرف أيضًا أن ذلك الخيار محفوف بكل أنواع المخاطر ويحملها مسؤولية هي غير قادرة عليها.
كما أنها تعلم أنه لم يعد لديها مجال لارتكاب الأخطاء من خلال الاعتماد على دعاة تغيير وهميين أو وجوه معاد تدويرها من منظومة ما قبل الثورة، أو على شعبوية من نوع آخر، لأن البلاد تقف على مفترق طرق حقيقي: إما الإنقاذ والسير في اتجاه التغيير الحقيقي والمصالحة الوطنية الجدية والانسجام الوطني، أو الانهيار والتناحر وفقدان السيادة.
السيناريو الأمثل هو أن تتحول الانتخابات القادمة إلى فرصة تلتقي فيها إرادة التغيير لدى مجموعة من التونسيين يجتمعون حول بوصلة واضحة ورؤية واقعية وطموحة ومرشح عقلاني، مع رغبة أجهزة الدولة في التغيير الهادئ والمسؤول الذي يعزز الاستقرار ويبني شروط التنمية.
هذا السيناريو قابل للتحقق إذا توفرت الإرادة. والمعركة تستحق أن تُخاض، لأن نتيجتها هي تحقيق التغيير المنشود في تونس في الوقت المناسب، وتقديم نموذج نجاح مهم لشعوب المنطقة بأسرها، كما عودتنا تونس دائمًا على تقديم النموذج وريادة المبادرات.
